انعدام الخوف من الآخرة
السبب الأول: انعدام الخوف من الآخرة، فالذي لا يخاف الآخرة من المشركين يأمن عذابها وما أعد الله تعالى للمجرمين فيها، ولذا قال تعالى: (( كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ))[المدثر:53]، وقال تبارك وتعالى عن هؤلاء: (( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ))[يونس:7-8]. فالذين لا يرجون لقاء الله ولا يخافون الآخرة لا يخافون عذاب الله، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين في أول سورة العنكبوت: (( مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ))[العنكبوت:5]، فالمؤمنون يرجون، أما الذين لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا فهم الكفار الصرحاء، ومن شابههم ممن ينتسب إلى الإيمان وهو في غفلة شديدة قد طبع على قلبه وختم عليه -نسأل الله العفو والعافية- فلا يرجو لقاء الله ولا يخاف الآخرة.فالله تعالى يقول عن هؤلاء: (( وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[يونس:7] ولم يرضوا بها فحسب، بل (( وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ))[يونس:7]، ذلك أن الإنسان قد يرضى بالشيء لكن لا يطمئن إليه، فيكون عنده قناعة ورضا لكن يشوبهما شائب، فيقول: وماذا عند الله؟ وماذا بعد الموت؟ وهي حالات تأتي في النفس الإنسانية.لكن هذا الصنف من الناس -والعياذ بالله- اطمأن بها، فقطع نظره وعقله وفكره وهمه عن الآخرة، كحال أمم الكفر اليوم في العالم، كل همهم وكل شأنهم وفكرهم محصور محدود في هذا الحياة الدنيا، فيحق فيهم قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ))[النمل:4]، فكل ما يعملونه يرونه حسناً مزيناً، فهم في عمه لا يبصرون الحق ولا يرونه أبداً، هم الواحد منهم كيف يجمع المال، وكيف ينمي الثروة وكيف يستفيد منها، وكيف يرتاح في هذه الحياة الدنيا.فالتربية الغربية الكافرة -والعياذ بالله- بجميع أنواعها وصورها تربي الفرد وتربي الجماعة بوسائل الإعلام وبغيرها في كل مكان أينما اتجهت وأينما نظرت على تحقيق أكبر قدر من الربح والكسب والراحة في هذه الدنيا فقط، أما للآخرة فلا، وإن وجد شيء فهو في طريق (( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ))[الكهف:104].وحاصل ما يصنعونه مما يظنونه من أعمال الآخرة ذهابهم إلى الكنيسة، ومن شدة طغيان المادية ونسيان الآخرة أصبحت الكنائس نفسها تدعو الناس إلى المسيح ودخول الكنائس بالرقص والخمر والنساء ووسائل اللهو والمسابح، فهي شعوب تعلقت بالدنيا، فأصبحت الكنيسة تريد منك خيطاً رفيعاً دقيقاً تتمسك به في هذا الباب، فالمهم أن يقول: أنا منتسب إلى الكنيسة ويدفع لها الرسوم والتبرعات، كما يفعلون عندما يتبرعون بالمليارات لتنصير المسلمين، أما أن تكون في قلبه حقائق إيمانية فلا.وهذا لا يشكل؛ لأن بعض الناس قالوا: كيف نقول: إن الإنجيليين الأصوليين غير متعبدين وهم يعدون -كما ذكروا- أربعين مليوناً، ويقول ريجن : إنهم ثمانون مليوناً، وهو واحد من الأصوليين، أي: المنتمين إلى الاتجاه الأصولي المحافظ كما يسمونه؟ فلا تتصور أن هؤلاء كلهم رهبان عباد كحال النصارى الأولين، بل هؤلاء منتمون إلى الكنائس ويدفعون لها التبرعات، ويحضرون يوماً في الأسبوع إلى الكنيسة، أو يشاهدون الكنيسة المرئية -كما يسمونها- في التلفزيون، ويعيشون همَّ وقضية الكنيسة، لكن في حياتهم هم الخمر والقمار واللهو واللعب، وهذا الأمر لا نقاش فيه، نسأل الله العفو والعافية، فهم غير أولئك الآخرين الذين هم كالحمير وكالدواب، أولئك كالأنعام بل هم أضل، فهذه طائفة وتلك طائفة، وكلتاهما غارقتان في الضلال.ومما يذكرون على سبيل النكتة -هي نكتة عندهم في الفكر الغربي، لكنها تدلكم على هذا المعنى، وهي نكتة بالمعنى العرفي عندنا يعني سخرية- أن رجلاً من رجال الأعمال يرى نفسه من الحكماء المشهورين، رجل أعمال وتجارة في أمريكا قابل رجلاً من الهنود الحمر، وهم يضربون مثلاً أن الأمريكان عمليين، وأن الهنود الحمر لا يعملون، فوجد الهندي الأحمر قاعداً لا يشتغل ولا يفعل أي شيء، يعني: عنده دخل ضئيل جداً ويأكل منه، ولا يفكر في تطوير نفسه، فجاءه هذا وقال له: لماذا تعمل هكذا؟ قال: ماذا تريدني أن أعمل؟ قال: كون مؤسسة أو شركة واشتغل، قال له: لماذا أفعل شركة؟ قال: لتجمع المال، قال: وإذا جمعت المال، قال: حتى يكثر مالك، وتكثر ثروتك، كذلك ما فهم، ورأى أنه ما يحتاج ويريد أن يوضح له لماذا يكثر ماله؟ وماذا يصير؟ قال: لما يكثر مالك ويتنمى بعدها ترتاح، قال: أنا الآن مرتاح، فإذا كنت مثلك رجل أعمال وعندي هم وغم وأتعب وأجمع أموالاً لكي أرتاح، فأنا الآن مرتاح ولا عندي أي مشكلة.فهذا مثال على الفرق بين الرجل العملي، والرجل الذي لا طموح له، لكن في الحقيقة إن كلام الهندي هذا له أصل؛ لأنه لو تنظر من ناحية عقلية إذا كانت النتيجة أني أكدح وأجمع المال حتى أرتاح في الدنيا، فأنا مرتاح، أما الآخر يمكن يموت وهو ما ارتاح، وهذا الواقع أن من يعمل ويكدح للدنيا دون الإيمان بالآخرة يموت وهو لم يرتح.فخيرٌ منه إذاً الذي ارتاح في الدنيا، يعني يعيش هادئاً وينام هادئاً، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية، كما ذكر الله تعالى زين لهم أعمالهم حتى أصبحت حياتهم كلها أرقام، يعني يقولون: كيف حياتهم كلها أرقام؟ يعني: أكثر ما يهم الرجل الغربي المادي في حياته الأرقام؛ لأنه عنده رقم طويل في التأمين، ورقم أيضاً طويل للبطاقة الشخصية، ورقم المستشفى، ورقم كذا، ورقم ورقم، كل حياته أرقام مجمعة؛ لأن لديه خوفاً هائلاً جداً، نسأل الله العفو والعافية.ولاسيما اليهود منهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ))[البقرة:96]، هذا بخلاف المؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر، ويرجون لقاء الله، ما يخافون، ولذلك تجد عندهم مهما كان الإنسان مثقفاً حتى من أساتذة الجامعات الكبار، المشهورين عالمياً أو كذا، تجد عندهم الحرص على حياة -حياة نكرة، يعني أي نوع من أنواع الحياة- فبعض هؤلاء المشهورين يعدون العباقرة والعقول المفكرة دائماً يمشي ومعه شنطة يحملها هو أو أحد الخدم معه فيها أجهزة كثيرة جداً، لا يستطيع أن يفارق الشنطة ليلاً ولا نهاراً، فهذا جهاز لقياس الضغط، وهذا جهاز للسكر، وهذا جهاز لقياس نبضات القلب، و.. إلخ، لماذا؟ يقول: يمكن أن أموت، فقبل أن ينتشر المرض أتدارك نفسي، فكلما أصابه شيء يقيس.. فهو مشغول بهذا؛ لأنهم أحرص الناس على حياة.وهذا الذي تعرض له موريس بوكاي الذي أسلم وهداه الله، وهو كان يمارس مهنة الطب، وجدوا من التجربة، من استقراء الجم الغفير من الناس أن المؤمنين بالآخرة والمسلمين الذين يذهبون إلى الغرب للعلاج والحمد لله عندهم من الطمأنينة ما لا يوجد عند غيرهم أبداً، يعني يأتون بالمريض أياً كان، سبحان الله! فالمسلم حتى لو كان فيه من الذنوب والعيوب ما فيه، لكن يظل عنده هذا القدر من الإيمان بالقدر والآخرة لا يجده ولا يشعر به، ولا يحس به أحدٌ من الكفار، لا يذوق طعم هذه النعمة إلا المؤمن، على ما فيه من تقصير أو غفلة، فإذا قالوا له: نسبة نجاح العملية 50% يفرح، فهذه طبيعة المسلمين والعرب، وتقول: الحمد لله، افعلوها، يوقع على إجراء العملية هو وولي أمره، وهو مرتاح جداً.ويقول موريس بوكاي: المشكلة إذا كان الرجل فرنسياً أو غربياً وكان نسبة النجاح فيها (90%) يظل يجادل أيام، ويقول: الـ (10%) هذه يا دكتور، ماذا؟ يقول له: ما نقدر نضمن، يقول له: يمكن موت؟ يقول: ما نقدر، يمكن كذا؛ لأنه لو قال له: (100%) معنى ذلك أن النتيجة لابد أن تكون (100%) وإلا سيحاكم، ويعطى تعويضاً ومشاكل تحصل، فيظلون يقنعونه أنه لا يمكن أن نعطي احتمال (100%)، لو (99%) فرضاً أو شيئاً من هذا، لكنه هو يقول: لابد الدواء أو العملية تكون بهذه النسبة.لكن المسلم الـ (50%) يقبلها، أحياناً أقل من (50%) يقول: توكلنا على الله، فإذ قيل له: يمكن تموت، قال: الحمد لله، إذا جاء القدر يقع لا محالة، آمنا بالله، فهذه راحة عجيبة! يتعجبون ما سر هذه الراحة، فلما تكرست هذه القضية وهذه الشواهد لفتت نظر هؤلاء الأطباء، ومنهم هذا الرجل المشهور إلى أن هذا الإيمان بالآخرة شيء عجيب جداً يوجد عند المسلمين.فهذا دليل على عظيم نعمة الله تبارك وتعالى بأن هدى هذه الأمة للإيمان بالآخرة، ولم يجعلها كأولئك الذين ادارك علمهم بالآخرة، (( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ))[النمل:66]، فهم يتخبطون في الظلام بدون أي بصيرة، فالمغني المشهور سابقاً الذي أصبح -والحمد لله- من المسلمين وهو يوسف إسلام أو كات ستيفن، أصدق -سبحان الله- ما يعبر به؛ لأنه أخذه من تعبير القرآن عندما سئل في المقابلة التي أجرتها معه مجلة البحوث الإسلامية: صف لنا حياتك في أيام الكفر، وكيف كنت؟ فقال: لا أستطيع أن أعبر أو أن أقول: إلا أنني كنت كإنسان في ظلامٍ مطبق داهم لا يرى شيئاً أبداً، فلما أسلمت أبصرت النور. سبحان الله! هذه الحقيقة، هي أوجز عبارة وأبلغ ما يمكن أن يقال، فظلام مطبق؛ لأن القلب مغلف تماماً، لا يفكر في الآخرة ولا يرجوها، فالله عز وجل لا يؤمن به، ولا رسول يتبعه، ولا هدي يهتدي به، فكيف يكون هذا، وكيف يعيش؟!ولذلك نقول: إنه لا تنافي، نزيد المسألة إيضاحاً: هؤلاء هذا حالهم في الإيمان بالله واليوم الآخر، ومع ذلك لا شك أنهم حققوا في الدنيا، كيف يحققون شيئاً من ملذات الدنيا وإيمانهم بالآخرة بهذا الشكل، وقلوبهم بهذا الشكل؟ فنقول: إنهم اتخذوا أسباباً أخرى، أيضاً تجري وفق سنن الله تبارك وتعالى، هي حدود هذا الظلام، فهم يعيشون في الظلام، لكن من خلال هذا الظلام قامت الثورات؛ ثورة الفلاحين في ألمانيا ، بعدها الثورة الفرنسية، لكن محدود الثورة الإنجليزية، بعدها الثورة الإمريكية، ثورات، آراء اجتماعية، مذاهب، فلسفات، حصل آخرها ما ترون من انهيار الشيوعية، فهم قومٌ لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وليس لديهم هدى من الله، لكن عندهم تجارب كثيرة جداً، فهم مثل الذين يعيشون في الظلام، والظلام هذا كله حفر، لكنهم جربوا، هذه الحفرة وقعوا فيها، وضعوا علامة؛ حتى لا يقع من يأتي بعدهم، وهذه الحفرة وضعوا عندها علامة وهكذا.فالله تعالى جعل للإنسان وسائل -وإن لم يبصر- لكنه في حدود الظلام ومن خلال هذه العلامات يمكن أن ينجو، وطبعاً في حدود الظلام لا يصل إلى النور إلا بالإيمان، لكن ممكن أن يعيش في حدود الظلام، فالغرب الآن هذه حياته، الغرب يعيش لكن في حدود الظلام، ضمن دائرة الظلام والدنيا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: الدنيا مظلمة، ملعونة إلا ما طلع عليها شمس الرسالة، فما لم تطلع عليه شمس الإسلام ويؤمن بالله تبارك وتعالى، ويؤمن بالآخرة فهم في ظلام دامس، وضعوا نوعاً من العلامات والأمارات، فأصبحوا يطالبون بحقوق الإنسان مثلاً، العدل هذا مما فطر الله تعالى عليه الأمم جميعاً، محبة العدل، محبة الخير، كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الروم: [ أمنعهم من ظلم الملوك ] يعني أصبحت قاعدة عند الغرب الآن، يتمانعون من ظلم الدول إذا رأوا أن حكومةً طغت على أفراد أو على الشعب، طبعاً العالم الإسلامي لا يدخل فيه، لكن داخل حياتهم، داخل الظلام الذي يعيشون فيه لا يقرون البغي أو الظلم فيما بينهم، أعراف جاهلية وأوضاع تعارفوا عليها جعلت حياتهم تظل، وجعلت تقدمهم المادي يزداد رغم أنهم يعيشون في الظلام.إذاً: لا تنافي كما قد أوضحنا سابقاً بين الظلام وبين أن الإنسان يحقق وهو في الظلام بعض الأمور التي يمكن أن توصله إلى شيء من الراحة أو العدل أو الرفاهية، لكنها لا توصل أبداً إلى الحق الذي يريده الله إلا بالنور الذي أنزله الله، وأمر باتباعه والاقتداء به. لذلك فإن أكبر عوامل الأمن عندهم هو أنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ لأن الكتب التي عندهم حرفوها وبدلوها، حذف منها ما يتعلق باليوم الآخر، إنك تعجب من ضخامة أسفار التوراة الموجودة الآن، حيث بلغتا تسعة وأربعين سفراً على اختلافهم في الأسفار، ومع ذلك حذف منها ما يتعلق باليوم الآخر، فأمر المعاد واليوم الآخر لا تجده فيها، حتى إن اليهود قبحهم الله هم وعلماءهم وأحبارهم ورهبانهم جعلوا كل ما وعد الله تعالى به من نعيم أو فضل مقصوراً على الدنيا، فمن عمل بالطاعات يجازى عليها بالخير في الدنيا، فبلغ بهم التحريف إلى هذا الحد، فلا تكاد تجد ذكراً في كل أسفار التوراة للآخرة، لا فيما ينسبونه إلى الله تبارك وتعالى بقولهم: إن الله قال أو أوحى، ولا فيما هو من كلام الرسل صلوات الله وسلامه عليهم من أنبيائهم ورسلهم، ولا فيما هو من كلام حكمائهم وأحبارهم ورهبانهم، ومن هنا نشأ عندهم هذا الأمن. وقد قال الله تبارك وتعالى عنهم: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ))[آل عمران:24]، ولهذا قال الله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123]، وقال تعالى عنهم: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18]، فمقتضى الكلام: لن يؤاخذنا ولن يعذبنا، فإن أدخلنا النار فهي أيام معدودات، فنحن شعب الله المختار الذين أثنى الله تبارك وتعالى عليهم وفضلهم على العاملين، وهذا التفضيل في زمانهم، ولا ريب في ذلك، لكن هذا ليس وعداً أبدياً يستمر مهما نكثوا ونكصوا وانقلبوا على أعقابهم وغيروا وبدلوا، بل كما قال تعالى: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ))[محمد:38]، فاصطفى الله سبحانه وتعالى بعدهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32] أورثهم الكتاب وأورثهم النبوة، وفضلهم وبين فضلهم في سورة الجمعة، فقال تعالى: (( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ))[الجمعة:2] ثم بين بعد ذلك مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، وهذا دليل على سبب تفضيل أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولئك الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فأصبح حالهم وشأنهم -عياذاً بالله- كمثل الحمار يحمل أسفاراً، أما هذه الأمة -والحمد لله- فإنها لا تزال فيها طائفة منصورة تزكي نفسها وتزكي غيرها بالحق وبما أنزل الله تبارك وتعالى من الدين، ولو كان من أهل الكتاب بقية لما نزعت منهم النبوة والكتاب، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب )، وهؤلاء البقايا ليسوا طائفة وأمة، وإنما هم أفراد، وربما كان آخرهم هو الذي ذكره سلمان الفارسي رضي الله عنه في القصة المشهورة: إنه لم يبق على وجه الأرض أحد. لأن صاحب إيلياء أحاله إلى صاحب دمشق ، وصاحب دمشق أحاله إلى صاحب بصرى، كل يحيله إلى الآخر، فقال له آخرهم: ما بقي على ظهر الأرض أحد، ولكن نبي آخر الزمان قد ظهر. فبفناء هؤلاء وانقراضهم يظهر نبي آخر الزمان، وهو في الفرع الآخر فرع إسماعيل عليه السلام، وأمته هي الأمة المصطفاة.والحاصل أن الأمن الذي ينقل صاحبه عن دائرة الإسلام يأتي ممن لا يؤمنون بالآخرة، وعلى رأسهم أولئك اليهود وأهل الكتاب قبحهم الله، الذين ظنوا أن الله لا يعذبهم إلا أياماً معدودات، ولهذا يأمنون من عذاب الله، ولا يخافون من عقوبة الله تبارك وتعالى، ويظنون أنهم أبناء الله وأحباؤه، ولهذا رد الله تبارك وتعالى عليهم عندما قالوا: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] فقال تعالى: (( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:18]، فلم يعذبكم بذنوبكم إن كنتم أبناء الله وأحباءه؟! وها أنتم تعذبون في الدنيا وستعذبون في الآخرة كذلك، فليس الأمر كذلك، (( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18]، وهذا نقض ونسف كامل من الأساس لدعوى شعب الله المختار التي يدعيها هؤلاء الذين غفلوا عن الله وعن اليوم الآخر، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمناً منهم من عقوبة الله، زاعمين أن عذابهم لن يكون إلا كذلك إن عذبوا، نسأل الله العفو والعافية.